فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وروي عن أبي عمرو {وَيُخْلَدْ} بضم الياء من تحت وفتح اللام. قال أبو علي: وهي غلط من جهة الرواية.
و{يُضَاعَفْ} بالجزم بدل من {يَلْق} الذي هو جزاء الشرط.
قال سيبويه: مضاعفة العذاب لُقيُّ الأثام. قال الشاعر:
مَتَى تَأتنا تُلْمِمْ بنا في دِيارنا ** تَجدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأَجَّجَا

وقال آخر:
إنّ عليّ اللَّه أَنْ تُبايِعَا ** تُوْخَذَ كَرْهًا أو تَجِيءَ طائعَا

وأما الرفع ففيه قولان: أحدهما أن تقطعه مما قبله.
والآخر أن يكون محمولًا على المعنى؛ كأن قائلًا قال: ما لُقيّ الأثام؟ فقيل له: يضاعف له العذاب.
و{مُهَانًا} معناه ذليلًا خاسئًا مُبعدًا مطرودًا.
قوله تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}.
لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني.
واختلفوا في القاتل من المسلمين على ما تقدم بيانه في النساء ومضى في المائدة القول في جواز التراخي في الاستثناء في اليمين، وهو مذهب ابن عباس مستدلًا بهذه الآية.
قوله تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال النحاس: من أحسن ما قيل فيه أنه يكتب موضع كافرٍ مؤمن، وموضع عاصٍ مطيع.
وقال مجاهد والضحاك: أن يبدلهم الله من الشرك الإيمان وروي نحوه عن الحسن.
قال الحسن: قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك، إنما التبديل في الدنيا؛ يبدلهم الله إيمانًا من الشرك، وإخلاصًا من الشك، وإحصانًا من الفجور.
وقال الزجاج: ليس بجعل مكان السيئة الحسنة.
ولكن بجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.
وروى أبو ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن السيئات تبدّل بحسنات» وروي معناه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما.
وقال أبو هريرة: ذلك في الآخرة فيمن غلبت حسناته على سيئاته، فيبدل الله السيئات حسنات.
وفي الخبر: «لَيتمنَّين أقوام أنهم أكثروا من السيئات فقيل: ومن هم؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الثعلبي والقُشيري.
وقيل: التبديل عبارة عن الغفران؛ أي يغفر الله لهم تلك السيئات لا أن يبدّلها حسنات.
قلت: فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحها وخالِق الناس بخلق حسن» وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولًا الجنة وآخرَ أهل النار خروجًا منها رجلٌ يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرِضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عمِلت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفِق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئةٍ حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا» فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
وقال أبو طَويل: يا رسول الله، أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترك حاجّة ولا داجّة إلا اقتطعها فهل له من توبة؟ قال: «هل أسلمت. قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك عبد الله ورسوله. قال: نعم. تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات. قال: وغدراتي وفجراتي يا نبيّ الله قال: نعم. قال: الله أكبر! فما زال يكررها حتى توارى» ذكره الثعلبي.
قال مبشر بن عبيد، وكان عالمًا بالنحو والعربية: الحاجّة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا.
{وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا}.
قوله تعالى: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتابًا} لا يقال: من قام فإنه يقوم؛ فكيف قال من تاب فإنه يتوب؟ فقال ابن عباس: المعنى من آمن من أهل مكة وهاجر ولم يكن قتل وزنى بل عمل صالحًا وأدّى الفرائض فإنه يتوب إلى الله متابًا؛ أي فإني قدّمتهم وفضلتهم على من قاتل النبيّ صلى الله عليه وسلم واستحل المحارم.
وقال القَفّال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} ثم عطف عليه من تاب من المسلمين وأتبع توبته عملًا صالحًا فله حكم التائبين أيضًا.
وقيل: أي من تاب بلسانه ولم يحقق ذلك بفعله، فليست تلك التوبة نافعة؛ بل من تاب وعمل صالحًا فحقق توبته بالأعمال الصالحة فهو الذي تاب إلى الله متابًا؛ أي تاب حق التوبة وهي النصوح، ولذا أكد بالمصدر.
ف {متابا} مصدر معناه التأكيد، كقوله: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي فإنه يتوب إلى الله حقًا فيقبل الله توبته حقًا. اهـ.

.قال ابن كثير:

{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ}.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: الذنب أكبر؟ قال: «أن تَجعل لله ندًا وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. قال عبد الله: وأنزل الله تصديق ذلك: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}». وهكذا رواه النسائي عن هَنَّاد بن السري، عن أبي معاوية، به.
وقد أخرجه البخاري ومسلم، من حديث الأعمش ومنصور- زاد البخاري: وواصل- ثلاثتهم عن أبي وائل، شقيق بن سلمة، عن أبي مَيْسَرة عمرو بن شرحبيل، عن ابن مسعود، به، فالله أعلم، ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ الحديث.
طريق غريب: وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، حدثنا عامر بن مُدْرِك، حدثنا السري- يعني ابن إسماعيل- حدثنا الشعبي، عن مسروق قال: قال عبد الله: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته، فجلس على نَشَز من الأرض، وقعدت أسفل منه، ووجهي حيال ركبتيه، واغتنمت خلوته وقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أي الذنوب أكبر؟ قال: «أن تدعو لله ندًا وهو خلقك قلت: ثم مه؟ قال: أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك. قلت: ثم مه؟ قال: أن تزاني حليلة جارك». ثم قرأ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}. إلى آخر الآية.
وقال النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يَسَاف، عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ألا إنما هي أربع- فما أنا بأشح عليهن مني منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم-: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا، ولا تسرقوا».
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن المديني، رحمه الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا طيبة الكَلاعي، سمعت المقداد بن الأسود، رضي الله عنه، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنى؟ قالوا: حَرّمه الله ورسوله، فهو حَرَام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره. قال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام. قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره».
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا عمار بن نصر، حدثنا بَقيَّة، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نُطفة وضعها رجل في رَحِم لا يحل له».
قال ابن جُرَيج: أخبرني يعلى، عن سعيد بن جبير أنه سمعه يحدث عن ابن عباس: أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزَنَوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}، ونزلت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبي فَاخِتة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: «إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك». قال سفيان: وهو قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}.
وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}. روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: {أَثَامًا} واد في جهنم.
وقال عكرمة: {يَلْقَ أَثَامًا} أودية في جهنم يعذب فيها الزناة. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير، ومجاهد.
وقال قتادة: {يَلْقَ أَثَامًا} نكالا كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني، إياك والزنى، فإن أوله مخافة، وآخره ندامة.
وقد ورد في الحديث الذي رواه ابن جرير وغيره، عن أبي أمامة الباهلي موقوفا ومرفوعا أن {غيا} و{أثاما} بئران في قعر جهنم أجارنا الله منها بمنه وكرمه.
وقال السدي: {يَلْقَ أَثَامًا} جزاء.
وهذا أشبه بظاهر الآية؛ ولهذا فسره بما بعده مبدلا منه، وهو قوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: يكرر عليه ويغلظ، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} أي: حقيرا ذليلا.
وقوله: {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا} أي: جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر {إِلا مَنْ تَابَ} في الدنيا إلى الله من جميع ذلك، فإن الله يتوب عليه.
وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة، فتحمل على من لم يتب، لأن هذه مقيدة بالتوبة، ثم قد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].
وقد ثبتت السنة الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب، وقبل منه، وغير ذلك من الأحاديث.
وقوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} في معنى قوله: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قولان:
أحدهما: أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قال: هم المؤمنون، كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحوَّلهم إلى الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات.
وروى مجاهد، عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية:
بُدّلْنَ بَعْدَ حَرِّهِ خَريفا ** وَبَعْدَ طُول النَّفَس الوَجيفَا

يعني: تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها.